.. وبدأت معركة الرئاسة
ــــــــــــــــ بقلم معتصم حمادة ـــــــــــــــ
إن ترشيح الجبهة الديمقراطية تيسير خالد لرئاسة السلطة يؤكد صدقية
دعواتها إلى اعتماد الانتخاب مدخلاً للإصلاح والتغيير وإعادة بناء
المؤسسات على أسس ديمقراطية.
مع إغلاق باب الترشيحات ـ تكون معركة الانتخابات لرئاسة السلطة
الفلسطينية قد فتحت على مصراعيها، بعدما انتظم المرشحون في ساحة
التنافس، كل منهم يلوح ببـرنامجه السياسي، وبالقوى التي تدعمه.
وهذه هي المرة الأولى التي ينظم فيها الفلسطينيون انتخاباً لرئيس
السلطة، يغيب عنه الرئيس عرفات، وتتبارى فيه القوى السياسية المختلفة،
متحررة من أعباء اتفاق أوسلو وملحقاته، متطلعة نحو مسيرة الاستقلال
والسيادة، كما شقت لها الطريق الانتفاضة في أيلول (سبتمبـر) من العام
2000.
ورغم أن المعركة مازالت في أيامها الأولى، إلا أن زخم الحالة
الفلسطينية، حمل في طياته عدداً مهماً من المؤشرات والدلالات.
* الملاحظة الأولى هي كثرة عدد المرشحين، حتى أن بعضهم أطل بـرأسه على
العملية الانتخابية من عالم المجهول، من بينهم الصحفي والطبيب،
والأستاذ الجامعي...
وهذ1 إن كان يدل على شيء، فعلى أن المجتمع الفلسطيني يولي هذه
الانتخابات اهتماماً ملحوظاً، وأنه لا يريد أن يتركها لمحترفي السياسة
فقط، وأنه يريد أن يؤكد أن من حق كل مواطن أن يقدم نفسه مؤهلاً لمنصب
الرئيس.
كما من دلالات اتساع عدد المرشحين، أن صفاً من المواطنين ـ هم الذين
رشحوا أنفسهم ـ أراد أن يبلغ من يهمه الأمر أنه غير راض عن مسيرة
السلطة الفلسطينية في السنوات الماضية، وأن نداءاته للإصلاح والتغيير
ذهبت أدراج الرياح، وأنه قرر الانغماس مباشرة في العملية السياسية، حتى
إذا ما حالفه الحظ، تحمل المسؤولية الشخصية في إدارة الدفة بالاتجاه
الصحيح، بعدما تلاعبت رياح الفساد والمحسوبية وسوء الائتمان وسوء
استعمال المال العام والنفوذ طويلاً بسفينة السلطة وكادت أن تطيح بها.
هؤلاء الذين رشحوا أنفسهم، أياً كان موقفنا من طروحاتهم السياسية
ورؤيتهم للمستقبل، يستحقون الاحترام، لأنهم عبـروا عن استعدادهم لتحمل
المسؤولية الوطنية، في وقت باتت فيه هذه المسؤولية ثقيلة.. وثقيلة
جداً.
* الملاحظة الثانية: أن القوى الفلسطينية التي تقدم نفسها على أنها
ديمقراطية، فشلت في الاتفاق على مرشح مستقل تلتف حوله، وتقدمه للمجتمع
الفلسطيني منافساً رئيسياً لأبو مازن، وأحد أكثر المؤهلين لتولي
المسؤولية الوطنية.
وهذا الفشل مؤشر على أن تجربة القوى التي تقدم نفسها ديمقراطية لم تنضج
بعد، وأنها ما زالت تفصلها مسافة بعيدة عن القدرة على تحويل اطروحاتها
وشعاراتها إلى عمل حقيقي يفلح الأرض ويزرعها وعياً ديمقراطياً. ولكن
لاحظ كيف سارع حزب الشعب إلى ترشيح الأمين العام (بعدما أعلن مصطفى
البـرغوثي عن ترشيح نفسه) وكيف أيدت جبهة النضال أبو مازن، وكيف ترددت
أطراف أخرى في حسم موقفها، الأمر الذي وضع الجبهة الديمقراطية لتحرير
فلسطين أمام استحقاق ترشيح ممثلها في اللجنة التنفيذية تيسير خالد. وهي
المرة الأولى التي تخوض فيها الجبهة الديمقراطية معركة انتخابية (خارج
الانتخابات النقابية الطلابية) في ظل وجود سلطة فلسطينية، وهو تعبير عن
تحول في الحالة السياسية الفلسطينية، أرادت من خلاله الجبهة
الديمقراطية أن تعطي لطروحاتها المصداقية الضرورية. فهي حين تدعو إلى
اعتماد الانتخابات مدخلاً للإصلاح والتغيير وإعادة بناء المؤسسات على
أسس ديمقراطية، تصبح ملزمة، والحال هكذا، أن تتحمل مسؤوليتها في إنجاح
هذه الانتخابات (على مساراتها المختلفة). إن في المشاركة الفاعلة في
تنسيب المواطنين إلى لوائح الناخبين، أو في المشاركة في مناقشة قوانين
الانتخابات للوصول إلى أرقى القوانين وأكثرها قدرة على تأمين
الديمقراطية والشفافية وفتح الباب أمام الجميع للانتساب الديمقراطي
للمؤسسة، أو في تقديم مرشحيها إلى المواطنين، بما يرمزون إليه من
بـرامج وتوجهات، بحيث تتحول المعركة الانتخابية إلى ساحة تتبارى فيها
البـرامج المختلفة، وبحيث تتاح الفرصة للمواطن للانحياز الحر لهذا
البـرنامج أو ذاك، مدركين مسبقاً أن بعض القيود التنظيمية المتزمتة قد
تحدّ من حرية الانحياز، وتغلّب المصلحة الحزبية الضيقة، على المصلحة
الوطنية الأوسع. فيضطر بعض المنتمين إلى بعض الفصائل، لتأييد مرشح
فصيلهم، رغم حالة القطيعة بينهم وبين بـرنامج فصيلهم وتكتيكاته
السياسية. إن ترشيح الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين عضو مكتبها
السياسي، تيسر خالد، لمنصب رئيس السلطة هو في حد ذاته إعلان صريح وشجاع
عن استعدادها لتحمل كل المسؤولية أمام شعبها، ومؤيديها، عن القضية
الوطنية جنباً إلى جنب مع الوطنيين المخلصين وكل الحريصين على صوت
الحقوق والأهداف.
* ثمة مؤشرات لا تدعو على الارتياح بدأت تبدر عن أوساط في السلطة. منها
على سبيل المثال امتعاض البعض (غير المبـرر) «من كثرة المرشحين» وذلك
بذريعة التخوف من بعثرة الأصوات، وبحيث لا يفوز محمود عباس (كما يتوقع
هؤلاء مسبقاً) بأصوات كثيرة الأمر الذي قد يضعفه لاحقاً في مواجهة
الإسرائيليين والأميركيين (كما يتذرع أصحاب هذا الرأي). وواضح تماماً
أن هذا الامتعاض، غير موجه لا ضد شارون ولا ضد بوش، فالاثنان لن يريا
في أي رئيس فلسطيني قادم، حالة ضعيفة، إذا ما فشل في نيل تأييد (مثلاً)
80% من الأصوات، واكتفى بالحد الأدنى الضروري للنجاح. وكلنا صادفتنا
انتخابات في دول ديمقراطية فاز فيها الرؤساء بفوارق بسيطة، ومع ذلك
تمتعوا بكل الصلاحيات التي يمنحهم إياها القانون، ومثلوا بلادهم في
المحافل الدولية بكل ثقة دون أي اعتبار لحجم الأصوات التي حملتهم إلى
سدة المسؤولية. الواضح أن الامتعاض موجه ضد باقي القوى الفلسطينية وأن
الذين يدعمون أبو مازن، يحرصون على أن يفوز بعدد كبير من الأصوات، لا
ليتحدى شارون أو بوش، بل ليتحدى القوى الأخرى، إن داخل فتح نفسها، حيث
يتوقع أن يجابه أبو مازن بمعارضة فتحاوية لبعض خطواته واتجاهاته
السياسية (إذا ما حالفه الحظ وفاز بالرئاسة) أو من قبل قوى المعارضة،
إذا ما عاد «واهتدى»، في السياسة، بخطابه الشهير في العقبة. إن هذا كله
ينبئ أن «نزعة الديمقراطية» لدى هذه الأطراف، إنما هي نزعة تشكو من ضعف
مزمن، بل هي شكل دخيل على حياتهم السياسية، حيث اعتادوا التفرد
والاستفراد وتجاوز الهيئات وانتهاك القوانين وخرقها.
* ثمة مؤشر آخر، بـرزت تباشيره لدى المجلس التشريعي، حيث تسيطر الكتلة
الفتحاوية على أعماله وقراراته والقوانين التي يصوغها. فمبادرة من أمين
عام السلطة الفلسطينية الذي هو في الوقت نفسه نائب في المجلس التشريعي
(لاحظ هذا التداخل الغريب العجيب بين السلطة التشريعية والسلطة
التنفيذية) تبنى المجلس التشريعي قانوناً أجاز بموجبه إجراء الانتخابات
بالاستناد إلى سجل السكان، وليس إلى سجل الناخبين، الأمر الذي يعني أن
الانتخابات ستنظم كذلك في السفارات الفلسطينية في الخارج. نقطة
الاعتراض أن الاقتراع سيجري في السفارات دون أي إشراف من اللجنة
المركزية لتنظيم الانتخابات التي تضم ـ هكذا يفترض ـ ممثلين عن جميع
القوى والأطراف السياسية. وفي حال أن انتظمت عملية الاقتراع في
السفارات، فمعنى ذلك أن العديد من علامات الاستفهام سوف يطرح حول مدى
نزاهة هذه الانتخابات وشفافيتها.
في كل الأحوال، إن معركة انتخاب رئيس السلطة، ستبقى معركة سياسية من
الطراز الأول، قد يشوبها خلل وتجاوزات، لكن انخراط القوى الديمقراطية
والوطنية فيها، يجب أن يسجل باعتباره مكسباً للحالة الفلسطينية
والانتفاضة والمقاومة. وحرصاً من هذه القوى على الحد من الخلل
والتجاوزات.
رئيس تحرير مجلة "الحرية" الفلسطينية
|